سورة القلم - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القلم)


        


{قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)}
قوله تعالى: {قالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ} أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا، قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله، لان المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين {قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا} اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم: سُبْحانَ رَبِّنا أي نستغفر الله من ذنبنا. {إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} لأنفسنا في منعنا المساكين. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. {قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ} أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء.
وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. {عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها} تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا، فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا.
وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
وقال الحسن: قول أهل الجنة {إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ} لا أدري إيمانا كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين. وسيل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا، حكاه القشيري. وقراءة العامة يُبْدِلَنا بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان.
وقيل: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والابدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة النساء القول في هذا.


{كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)}
قوله تعالى: {كَذلِكَ الْعَذابُ} أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال، عن ابن زيد.
وقيل: إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلي الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}
وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الحنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا، والأول أظهر، والله أعلم.
وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر.


{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)}
قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} تقدم القول فيه، أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} أي كالكفار.
وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون، فنزلت أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ثم ونجهم فقال: {ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. {أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ} تختارون وتشتهون. والمعنى: أن لكم بالفتح ولكنه كسر لدخول اللام، تقول علمت أنك عاقل بالفتح، وعلمت إنك لعاقل بالكسر. فالعامل في إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ تَدْرُسُونَ في المعنى. ومنعت اللام من فتح إِنَّ.
وقيل: تم الكلام عند قوله: تَدْرُسُونَ ثم ابتدأ فقال: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون، أي ليس لكم ذلك. والكناية في فِيهِ الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب. ثم زاد في التوبيخ فقال: {أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ} أي عهود ومواثيق. {عَلَيْنا بالِغَةٌ} مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. {إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ} كسرت أَيْمانٌ لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة أَيْمانٌ، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام، تقول: حلفت إن لك لكذا.
وقيل: تم الكلام عند قوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثم قال: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ إذا، أي ليس الامر كذلك. وقرأ ابن هرمز {أين لكم فيه لما تخيرون} {أين لكم لما تحكمون}، بالاستفهام فيهما جميعا. وقرأ الحسن البصري {بالغة} بالنصب على الحال، إما من الضمير في لَكُمْ لأنه خبر عن أَيْمانٌ ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في عَلَيْنا إن قدرت عَلَيْنا وصفا للايمان لا متعلقا بنفس الايمان، لان فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من أَيْمانٌ وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب حَقًّا على الحال من مَتاعٌ في قوله تعالى: {مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. وقرأ العامة بالِغَةٌ بالرفع نعت ل أَيْمانٌ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8